النبي نوح (عليه السلام) أسطورة الاستقامة والصبر
يحوي القرآن الكريم بين دفتيه مجموعة من قصص الأنبياء، وهي قصص تحوي العديد من الدروس والعبر، ولم يخلدها تعالى على مر العصور إلا لأنها تحوي العديد من الرؤى والبصائر لجميع الناس.
ولهذا ولكي نستفيد من هذه القصص لابد لنا من أن نقرأ القصة بروح ونستخلص منها أهم الدروس والعبر، ومن بين القصص التي ينبغي التأمل فيها بين الفينة والأخرى قصة نبي الله نوح فهي قصة تحمل العديد من المعاني القيمة، فقد جسد نوح نموذجاً رائعاً في مسيرة الدعوة إلى الله، ورسم لنا طريقاً ومنهاجاً قيماً لمن يرغب في سلك مسلك التغيير والدعوة إلى الخير والصلاح.
• نوح .. رمز التغيير
بعث نوح إلى مجتمع وثني، يعبد الأصنام، وأثرت هذه الوثنية في مجمل سمات ذلك المجتمع حتى أضحت علاقاته متفككة، وثقافته، وتفكيره متخلفاً. بعيداً كل البعد عن المنهج الرباني، متجهاً بصورة واضحة نحو السقوط.
ولهذا لابد من داعية، ومصلح، ومنقذ لذلك المجتمع ليوقف هذه المسيرة المنحرفة، ولينقذ الإنسان من هذا التيه، ويأخذ بيده نحو الهداية والرشاد. ومن هنا جاء نوح كقائد ورمز للتغيير، متحملاً للمسؤولية الإلهية إذ أمره تعالى بـ (أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم ). كما أن نوحاً أعلن عن شخصيته بقوله (يا قوم إني لكم نذير مبين) فقد صارح قومه بهذه الكلمة، وقد أكد على الإنذار لما له من تأثيرٍ بليغٍ على النفوس.
*نوح يشخص المشكلة .
لخص نوح دعوته في ثلاث كلمات (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) فقد أمر قومه بعبادة الله وحده (التوحيد) والحفاظ على التقوى، وطاعة القوانين والأوامر التي جاء بها من عند الله والتي تمثل مجموعة العقائد والأخلاق والأحكام. وبهذا حدد نوح معالم النظام القائم والنظام البديل معاً (ثقافياً واجتماعياً وسياسياً) فهو مجتمع متورط في الوثنية كما ذكرنا سابقاً فهو بعيد عن المبادئ الأولية، وليس هذا فحسب بل نراه ضالاً عن جميع مفردات الحياة، فهو لم يكن يخشى ربه، ولم يتقه، وهذا يعني الإنفلات العام الذي كان يعيشه ذلك المجتمع ولهذا كانت كلمة (واتقوه).
والمشكلة الأخرى التي كان مجتمع نوح متورط فيها هي إتباعه لقيادة المترفين (سنتحدث عنها لاحقاً) وهذه القيادة لها تأثيرها في تحديد معالم ذلك المجتمع. ولهذا لابد من منهج سليم لعلاج هذه الأعراض وهذه المظاهر وهو ما صرح به نوح (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون ).
*نوح يؤكد على المعطيات..
عندما جاء نوح وأراد أن ينسف ذلك النظام الفاسد كان لابد عليه من أن يوضح ما هو البديل وما هي المعطيات التي سيستفيد منها المجتمع، وهذا أصل من أصول كل دعوة أن يوضح الداعية إيجابيات دعوته، ولهذا قال نوح (يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى). فقد بين نوح من خلال حديثه مع مجتمعه اتجاه المسيرة التي يسيرها ذلك المجتمع والتي تتجه نحو الهلاك والدمار، وأن العذاب سيكون مصيرهم لا محالة مالم يتغيروا. وفي حالة الاستجابة للدعوة فإن يجنبهم الأخطاء ويؤخر أجلهم إلى مدته الطبيعية أو أكثر وهذا من أعظم الأهداف التي ينشدها الأنبياء باعتبارهم يأتون منقذين.
*الإصرار في الدعوة
لقد ضرب نوح أروع النماذج في الاستقامة والإصرار في الدعوة إلى الله تعالى فقد كان يدعو قومه (ليلاً ونهاراً) فهو لا يعرف وقتاً محدداً للدعوة أو العمل في سبيل القضية الإلهية، فقد سخر وقته لهذه القضية ولم يدخر لنفسه شيئاً. ونستوحي من هذه التجربة أن من تكون أهدافه عظيمة فإنه يسعى بكل الإمكانيات المتاحة أمامه لتحقيق هذه الأهداف والتطلعات. كما أن نوحاً كان يتنقل من أسلوب إلى آخر في دعوته فهو يدعوهم (جهاراً) و (أعلنت) و (أسررت) وهذا طبقاً لمقتضيات المرحلة التي كان يعيشها. كما أن الاختلاف في هذه الأساليب ضروري جداً حتى يتمكن الداعية والمصلح من النفوذ والتأثير في ذلك المجتمع المعاند.
*نوح والمجتمع المعاند
ومع هذا التنوع في الأساليب إلا أن نوحاً واجه مجتمعاً معانداً رافضاً للدعوة وبكل شدة فقد كانوا يفرون من نوح فراراً ويهربون من مجالس الدعوة. كما أنهم استخدموا أسلوباً آخر وهو (جعلوا أصابعهم في آذانهم) فهم لم يرغبوا بسماع كلمات الدعوة أو التأثر بصوت نوح ، (واستغشوا ثيابهم) فهم أيضاً لم يرغبوا حتى برؤية نوح لما لهيئته من تأثير. وهذا يدلنا على أن نوح كان يمارس دوره بكل مهارة واستخدم أرقى أنواع الاتصال المؤثر في العلم الحديث فمن نبرات الصوت تستطيع التأثير في الآخرين، ومن الهندام وحركات الوجه أو اليدين تستطيع أن تؤثر في الآخرين أيضاً.
ولكن هذا المجتمع كان يمتاز بتمسكه بخطه وأفكاره والإصرار على معتقداته كما أنه مجتمع مستكبر(قد غزاه الاستكبار وحجبه عن إتباع الخط الإلهي السليم ). ففي مقابل إصرار نوح على هداية قومه، قابله المجتمع بالمثل وبإصرار اشد حتى أنه كان يذهب الرجل بابنه إلى نوح فيقول لابنه: احذر هذا لا يغرنك، فإن أبي قد ذهب بي وأنا مثلك فحذرني كما حذرتك. حتى أنه طيلة دعوته التي دامت (950) عاماً لم يؤمن به إلا ثمانون شخصاً، ولو قسمنا هذه المدة على عدد الأنفار يتضح لنا أن مدة هدايته لكل فرد دامت اثنتي عشرة سنة تقريباً !! فأي صبر هذا الذي كان يتمتع به نوح ؟! .
*عامل الترغيب
ويستمر نوح في دعوته لقومه بأسلوب آخر وهو الترغيب والتشجيع حيث يقول
استغفروا ربكم إنه كان غفاراً) فقد دعاهم للاستغفار الذي يعني التوجه إلى الله ببرنامج عملي متكامل، الاستغفار الذي يهدم الواقع السيئ ويبني واقعاً أفضل، والاستغفار الذي يخلق من المجتمع الميت مجتمعاً آخر حياً. ولهذا أخبرهم نوح بنتائج الاستغفار العملي المتمثلة في (يرسل السماء عليكم مدراراً) أي أمطار رحمة تبعث على الأعمار والبركة في الحياة.
ومن ثمرات الاستغفار ايضاً (ويمددكم بأموال وبنين) أي أنه يسبب الرفاه الاقتصادي والبشري، وكذلك (ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً) أي تتحول هذه الأرض إلى حدائق مباركة وأنهار جارية. وهكذا فإن الاستغفار العملي هو طريق التقدم والرفاه لأي مجتمع.
*الدعوة بطريق استثارة العقل والوجدان
ومن بين الأساليب التي استخدمها نوح في دعوته هو إثارة العقول ومخاطبة الوجدان، حيث دعاهم إلى التفكر في أنفسهم وكيفية خلقهم فقال: (وقد خلقكم أطواراً) تأملوا في ذواتكم وكيف تمت عملية التحول لديكم من نطفة لا قيمة لها إلى إنسان بهذا الشكل بعد مرورها بهذه المراحل. وتأملوا في ذواتكم حيث مررتم بمراحل الطفولة ثم الشباب ثم الرجولة ثم الشيخوخة وهكذا، أليس لهذا الخلق خالق بديع؟!
ثم تأملوا في هذه السماوات السبع وهذا التطابق وهذا الخلق المنظم (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً) ثم أنظروا لهذا القمر المنير وهذه الشمس (وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً) وفي هذا لفتة علمية وهي أن نوح خاطب قومه بالحقائق العلمية فقال (القمر فيهن نوراً) فالقمر يعكس النور وليس مصدراً للنور وإنما الشمس هي منشأ النور فقال (الشمس سراجاً )، وربما كان هدف نوح من هذه الدعوة هو أن يتفكر الإنسان في هذه المنظومة الشمسية وأن يوسع فكره، ويتأمل في هذه الكواكب ويهتدي عبرها إلى الخالق القادر.
وهكذا أخذ نوح يدعو قومه إلى التفكر في كيفية الخلقة من تراب ونهاية الخلقة إلى تراب (والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً ). وكما دعا قومه إلى التفكر في السماوات دعاهم أيضاً إلى التفكر في هذه الأرض (والله جعل لكم الأرض بساطاً) لماذا ؟ (لتسلكوا فيها سبلاً فجاجاً) فلو لم تكن الأرض بهذه الكيفية لما أمكن العيش عليها. وهكذا نجد أن نوحاً بذل كل ما بوسعه وأستخدم شتى الأساليب والاستدلالات المنطقية والحقائق العلمية لهداية قومه.
*نوح يناجي ربه
بعد هذه التجربة الفريدة من الدعوة، وجد نوح أن قومه لا يتأثرون بما جاء به من منهاج حق، وطريق للفلاح، بعد أن نفذت كل المحاولات توجه إلى ربه مناجياً وشاكياً إليه مسيرة قومه، وليشرح إلى ربه ما لاقاه منهم، فقال: (رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) ومن خلال هذه الكلمة بين نوح أن مجتمعه خاضع لتأثير طبقة من الأغنياء والمترفين، وهذه الطبقة تعمل جاهدة لصد الناس عن اتباع نوح(ع) لأنهم حريصون على رئاسة مجتمعهم والسيطرة على أفراده وخيراته ومقدراته. كما أن هذه الفئة قد سخرت كل إمكاناتها المالية والبشرية (الأولاد) لمعاداة الرسالة. كما عمد المترفون وأصحاب الأموال إلى وضع الخطط الشيطانية لتضليل الناس (ومكروا مكراً كباراً) فقد عمدوا إلى إغفال الناس بحبائل الغفلة ليتحقق لهم مبتغاهم.
ومن بين الحيل التي صنعها المستكبرون أنهم صنعوا تماثيل لمجموعة من البشر ورغبوا الناس في الالتصاق بهم وتقديسهم وقالوا (لا تذرن آلهتكم) فهذه الأصنام هي موجودات محترمة ونافعة ويجب عبادتها، وهكذا شغلوا الناس بعبادة الأصنام الخمسة (ود، سواع، يغوث، يعوق، نسر) ومارسوا دور الوصاية والتواصي في إتباع هذه الأصنام.
* الغرق .. جزاء الظالمين
إن الجزاء الحتمي الذي ينتظر الظالمين إنما هو العذاب في الدنيا قبل الآخرة، وهذا ما حدث لقوم نوح الذين واجهوا نوحاً بكل قوتهم ورفضوا دعوته رفضاً قطعياً، حيث نزل عليهم المطر فكان الغرق مصيرهم الدنيوي، وتميز هذا الغرق بأنه قد شمل جميع الكافرين ولم يستثن منه أحداً (لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) حيث أن ابن نوح قد عمه الغرق لأنه دخل ضمن قائمة (الكافرين)، ثم أن هذا العذاب جاء بعد فترة من الإمهال (950) سنة ولكن القاعدة تقول (يمهل ولا يهمل). وبعد الغرق كانت نار البرزخ في انتظارهم (فأدخلوا ناراً) وتحولت قبورهم إلى حفر من النيران.
* دعاء شيخ المرسلين
وختاماً لهذه السورة المتضمنة للحديث عن المعاناة الصعبة، ودعاء شيخ المرسلين على قومه نجد آثار اللطف وحب الخير يُجليها لسان نوح عن قلبه الحنون، وذلك حتى لا يظن أحد أنه يحمل العداء الشخصي ضد قومه بالذات، فإنه وازن بين الدعاء سلباً ضد الكافرين الفاجرين، والدعاء إيجابياً لصالح المؤمنين الصالحين.
فقال في دعائه: (رب أغفر لي) لئلا يكون قد مرّ على بعض الأمور المهمة مروراً سريعاً، ولم يعتن بها.( ولوالدي) وذلك تقديراً لما تحملاه من متاعب ومشقة. (ولمن دخل بيتي مؤمناً) لمن انتمى لخطه ومسيرته ممن عاصروه. (وللمؤمنين والمؤمنات) لجميع المؤمنين والمؤمنات على مر العصور في جميع أنحاء العالم. (ولا تزد الظالمين إلا تباراً) هلاكاً وعذاباً وضلالاً لجميع الظالمين على مر العصور وفي جميع أنحاء العالم أيضاً.
وفي الختام إنما هو دعاء يؤكد الولاء والانتماء للمؤمنين والحق، وبراءة من الظالمين والباطل. وهكذا نخلص إلى أن نوحاًَ كان أسطورة الاستقامة والصبر والجهاد في سبيل هداية قومه، وهو بحق قدوة الداعين إلى الله، وسيرته هي خير منهج يستلهم منها أهم الدروس والعبر في هذا المجال.